الحمد لله رب العالمين بلاغيًا
قوله
تعالى ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾الفاتحة/2
في هذه الآية مبحثان
بلاغيّان:
1. مبحث
(الحمد)، وفيه:
- هل الحمد بمعنى
الشّكر؟
- رفعُ (الحمد)
ونصبها.
- (ألـ) التّعريف
الدّاخلة على (الحمد).
2. مبحث اللّام في
(لله).
أوّلًا: مبحث (الحَمْد):
الحَمْد: "نقيض
الذّم، والحمد: الثّناء"([1])،
"تقول: حمدتُ الرّجلَ: إذا أثنيت عليه بكرمٍ وحَسَبٍ وشجاعةٍ وأشباه ذلك،
وشكرتُ له: إذا أثنيتَ عليه بمعروف أَوْلَاكَهُ، وقد يوضعُ (الحمد) موضعَ
(الشّكر)، ولا يُوضعُ (الشّكر) موضعَ (الحمد)"([2])،
وإذا كان الحمد ثناءٌ بالجميل والنّداء عليه باللّسان فإنّ الشّكر هو الثّناء على
النّعمة خاصّةً، فيكون بين الحمد والشّكر عمومٌ وخصوص؛ وقولكَ (الحمدُ لله) جملةٌ
خبريّةٌ إستُعملت لإنشاءِ مدحِ المحمود،"والثناء عليه بصفاته الـحُسنى، وشكر
الله: الثناء عليه بنعمته وإحسانه"([3])،
قال ابن عباس: "الحمد لله هو الشّكر لله، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه
وغير ذلك"([4]).
وقد يكون معنى (الحمد
لله) الشّكر لله خالصاً دون سائر ما يُعبد، بما أنعمَ على عباده من ضروب النّعم
الدينيّة والدّنيويّة، وهذا المعنى أصحُّ في اللغة ممّا سبقه، "إذ أنّ
الحمد لله قد يُنطق به في موضع الشّكر، وأن الشّكر قد يوضع موضعَ الحمد، لأنّ ذلك
لو لم يكن كذلك، لما جاز أن يُقال "الحمد لله شكرًا""([5]) فنصبَ
(شكراً) على أنّه مفعول مطلق، ولو لم يكن في معناه لما نصبَهُ.
وقوله في أوّل
سورة الفاتحة (الحمد لله) "تأديبٌ بأدبٍ عُبوديٍّ، ما كان للعبدِ أن يقوله
لولا أنّ اللهَ تعالى قاله نيابةً وتعليماً لما ينبغي الثّناء به"([6])
وأمّا رفع (الحمد)
ونصبها فقد قال الفرّاء: "إجتمعَ القرّاء على رفع (الحمد)، وأمّا أهلُ البدو
فمنهم مَنْ يقول: الحمدَ لله..ومَنْ نَصَبَ فإنّه يقول: (الحمد) ليس بإسمٍ، إنّما
هو مصدر، يجوزُ لقائله أن يقول: أحْمَدُ اللهَ، فإذا صَلُحَ مكان المصدرِ (فعلَ أو
يفعلُ)([7]) جاز
فيه النّصب"([8])،
وعليه، فإنّ في (الحمد) قراءتين:
1. (الحمدَ)
بالنّصب، مصدر فعلٍ محذوف تقديره (أحمدُ اللهَ الحمدَ)، فحُذِفَ الفعل وقام المصدر
مقامه، كأنك قلت: الحمدَ لله أو حمداً لله.
2. (الحمدُ)
بالرّفع، وتكون مبتدأ، وشبه الجملة مُتعلّقة بخبرٍ محذوف تقديره (ثابت) أو
(مُستقرّ).
قال الزّجاج:
"إنّ الرّفعَ أحسنُ وأبلغُ في الثّناء على الله عزّ وجلّ"([9])،
فما وجهُ حُسنِ الرّفعِ وبلاغته؟
إنّ في دخول (ألـ)
التعريف على (الحمد) معنى لا يؤدّيه خلوّها منه، ففي تعريفها عمومُ الحمدِ
وكمالُهُ، وفي تنكيرها جُزئيّته، فدخولُها "مُنبِئٌ عن أنّ معناه: جميع
المحامد والشّكر الكامل لله، ولو أُسقطتا منه لـما دلَّ إلا على أنّ حَمْدَ قائلِ
ذلك لله دون المحامدِ كلِّها، إذ كان معنى قول القائل: (حمْداً لله) أو (حمدٌ لله)
أحْمَدُ اللهَ حمْداً، وليس التأويلُ _ في قول القائلِ (الحمدُ للهِ ربِّ
العالمين) تالياً سورةَ أمِّ القرآن _ أحْمَدُ اللهَ ، بل التأويلُ: أنّ جميعَ
المحامدِ لله بألُوهيّته وإنعامه على خَلْقِهِ بما أنعمَ عليهم من النِّعَمِ التي
لا كِفاء لها في الدِّين والدُّنيا، والعاجلِ والآجل، ولذلك تتابعت قراءةُ
القرّاءِ وعلماء الأمّة على رفع (الحمد) دون نصبها، ولو قرأ قارئٌ ذلك بالنّصب
لكان عندي مُحيلاً معناه، ومُستحقّاً العقوبةَ على قراءته إيّاه كذلك، إذا تعمّدَ
قراءتَهُ كذلك، وهو عالمٌ بخطئه وفساد تأويله"([10]).
قال النّحّاس:
"الرّفعُ أجودُ من جهةِ اللّفظِ والمعنى، فأمّا اللَّفظ: فلأنّه إسمٌ معرفةٌ
خبَّرتَ عنه، وأمّا المعنى فإنّكَ إذا رفعتَ أخبرتَ أنّ حمدَكَ وحمْدَ غيركَ لله
عزّ وجلّ، وإذا نصبتَ لم يَعْدُ حمدَ نفسِكَ"([11])،
"فدخول الألف واللّام في (الحمد) لفائدةِ الإستيعاب، فكأنّه قال: جميع الحمد
لله، وقوله تعالى(ربّ العالمين) مُخبرٌ بذلك، ولو نصبَهُ فقال: (حمداً لله) أفادَ
أنّ القائلَ هو الحامدُ فحسبُ، وليس ذلك المراد"([12]) لأنّ
المصدرَ المنصوب (حمداً) هو بمعنى (أحْمَدُ اللهَ حمداً)، فيكون المعنى خاصّاً
بالمتكلّم الحامد وليس عامّاً.
وقد عقد سيبويه في
(الكتاب) باباً للتفريق بين الرّفع والنّصب أسماه "باب يختار فيه
الرّفع"، وضرب لذلك مثالاً، قولك: رأيتُ زيداً فإذا له علمٌ علمُ الفقهاء أو
رأيتُ زيداً فإذا له علمٌ علمَ الفقهاءِ، يقول: "وإنما كان الرّفع في هذا
الوجه لأنّ هذه خصالٌ تذكرُها في الرّجل، كالحِلم والعلم والفضل، ولم ترد أن تخبرَ
بأنّك مررتَ برجلٍ في حال تعلّمٍ ولا تفهّمٍ، ولكنّك أردتَ أن تذكرَ الرّجل بفضل
فيه، وأن تجعل ذلك خِصلةً قد استكملها، وإن شئت نصبت فقلت: له علمٌ علمَ الفقهاء،
كأنك مررت به في حال تعلم وتفقه، وكأنه لم يستكمل أن يقال: له عالم([13]) ..وإذا
قال: له علمٌ علمُ الفقهاءِ]بالرفع[،
فهو يُخبرُ عمّا قد استقرّ فيه، وإنما الثناء في هذا الموضع أن يخبر بما استقرّ
فيه، ولا يُخبرُ أنّ أمثلَ شيءٍ كان منه التّعلم في حال لقائه"([14])،
وقولُ سيبويه السّابق يعني أنّ في النّصبِ إشعارًا بالفعل، وفي صيغة الفعل إشعارٌ
بالتّجدّد والطُّروءِ، لأنّ الفعل مُتجدّدٌ بتجدّد الزمن، وليس مثل ذلك في الرّفع
على الإبتداء، لأنّ الإبتداء يستدعي استقراراً وثباتاً، وعليه يكون تقدير النّصب
في قراءة (الحمدَ لله) نحمدُ اللهَ حمداً، ومع قراءة الرّفع الحمدُ ثابتٌ لله أو
مُستقرٌّ، يقول الزمخشريُّ: "والعدل بها عن النّصب إلى الرّفع على الإبتداء
للدّلالة على ثبات المعنى واستقراره، ومنه قوله تعالى (قالوا: سلاماً، قالَ:
سلامٌ) هود/69 رفع (السّلام) الثانية للدّلالة على أنّ إبراهيم عليه
السّلام حيَّاهم بتحيّة أحسنَ من تحيَّتهم، لأنّ الرّفعَ دالٌّ على معنى ثبات
السّلام دون تجدُّده وحدوثه"([15])
وبقي في المبحث الأول
الحديث عن نوع (ألـ) الداخلة على (الحمد).
المعارف في اللّغة
العربيّة سبعةُ أنواعٍ، منها تعريف الإسم الـمُقترن بـ(ألـ)، يقول ابن عقيل:
"الألف واللام الـمُعرِّفة تكون لاستغراق الجنس، نحو قوله تعالى﴿إِنَّ
الإنْسَانَ لَفِيْ خُسْرٍ﴾العصر/2، وعلامتُها أن يصلحَ موضعها (كلّ)"([16])،
و(ألـ) الإستغراقيّة إمّا أن تكون لاستغراق جميع أفراد الجنس، كقوله تعالى﴿وخُلِقَ
الإنسانُ ضعيفاً﴾النساء/28، وإمّا أن تكون لاستغراق جميعِ خصائص الجنس، نحو: أنتَ
الرّجلُ، أي: أنتَ اجتمعت فيك صفات الرّجال، و(ألـ) الإستغراقيّة يصلح أن نضع
موضعها (كل)، فنقول: خُلقَ كلُّ فردٍ من أفراد جنس الإنسان ضعيفا، واجتمعت فيك كلّ
صفات جنس الرّجال.
الحمد في قوله تعالى
(الحمدُ لله) مصدرٌ دخلت عليه (ألـ) التعريف، وهي للجنس أو لاستغراق الجنس، لأنّه
يصحّ أن نضع موضعها (كلّ)، فنقول: (كلُّ حمدٍ لله ربّ العالمين)، فقد تكون للجنس
على اعتبار أن قولك (الحمد لله) كأنّك تريدُ أنّ جنسَ الحمد المعروف لديك ولدى
مُخاطبك أو مُطلق الحمد لله، وإذا كان (الحمد) جنساً فالتعريف الدّاخل على الجنس
لا يفيدُ إلا توكيد اللّفظ وتقريره وإيضاحه للسّامع، وإلى هذا ذهبَ الزّمخشريّ،
قال: "التعريف في قوله تعالى (الحمدُ للهِ) هو تعريف الجنس، ومعناه الإشارة
إلى ما يعرفُهُ كلُّ أحدٍ من أنّ الحمد ما هو من بين أجناس الأفعال، والإستغراق
الذي يتوهّمُهُ كثيرٌ من النّاس وَهْمٌ منهم"([17]).
وقيل أنّ الألف
واللّام للإستغراق "قاله أبو جَعفر الباقِرُ وغيره"([18])،
أي "أنّ الحمدَ في الحقيقةِ كلُّه لله، إذ ما من خيرٍ إلا وهو مُولِيْهِ
بواسطةٍ وبغير واسطة، كما قال تعالى﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾النّحل/53"([19])،
وقال الشيخ الطّوسيّ: "دخول الألف واللّام فيه لفائدة الإستيعاب، فكأنّه قال:
جميع الحمد لله"([20]).
وسواءٌ أكانت (ألـ) في (الحمد) للجنس أم للإستغراق فإنّه مُختصّ بالله، كما أفادته الجملة الإسميّة، فهي تفيد أنّ ما من حمدٍ إلا كان لله سبحانه كلّه حقيقةً، وبهذا المعنى ما رواه الإمام الصّادق، قال: "فَقَدَ أبي بغلةً له، فقال: لئن ردَّها اللهُ تعالى لأحْمَدَنَّهُ بمحامدَ يرضَاها، فما لبثَ أن أُتيَ بها بسرجِها ولجامِها، فلمّا استوى عليها وضمَّ إليه ثيابَهُ، رفعَ رأسَهُ إلى السّماء، فقال: الحمدُ للهِ، فلم يزدْ، ثمَّ قال: ما تركتُ وما بقيت شيئاً، جعلتُ كلّ أنواع المحامد لله عزَّ وجلّ، فما من حمد إلا وهو داخلٌ فيما قلت" وعلّق الإربليّ قائلاً: "صدقَ وبرّ (عليه السّلام) فإنّ الألف واللام في قوله (الحمد لله) يستغرق الجنس، وتفرّده تعالى بالحمد"([21])
3. مبحث
اللام في ﴿لله﴾
وميّز الزّمخشريُّ
بين (الحمد والشّكر) بقوله: "حمدت الرّجلَ على إنعامه وحَسَبه وشجاعته، وأمّا
الشّكر فعلى النّعمة خاصّةً، وهو بالقلب واللّسان والجوارح"([22])،
﴿كَما أَرْسَلْنَا
إِلى فرعةنَ رَسُوْلاً، فَعَصَى فرعونُ
الرَّسُوْلَ﴾المزمل/16،
[1]- الفراهيدي: العين، ج7،
ص189.
[2]- ابن قتيبة: مشكل إعراب
القرآن وغريبه، ص3.
[3]- م . ن : ص3.
[4]- أبو جعفر الطّبري، محمد
بن جرير(310هـ): تفسير الطّبريّ: ذيل تفسير الآية2 من سورة الفاتحة، ج1، ص135،
المحقّق محمد أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1 ، 2000م.
[5]- أبو جعفر الطّبري، محمد
بن جرير(310هـ): تفسير الطّبريّ: ذيل تفسير الآية2 من سورة الفاتحة، ج1، ص138.
[6]- الطّباطبائي، السيد محمد
حسين الطباطبائيّ: الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص17، دار الأضواء، بيروت – لبنان،
ط1، 2010م
[7]- يريدُ الفرّاء أنّ يحلّ
محلَّ المصدر الفعل الماضي أو المضارع أو الأمر كقوله تعالى (فضرباً الرّقاب) يصلح
أن نضع مكان المصد فعل الأمر، فنقول (فاضربوا الرّقاب)، أو قوله تعالى (معاذَ
الله) يوسف/79 يصلح أن نضع مكان النصدر الفعل المضارع، فنقول (نعوذُ بالله)، ومنه
قول العرب: (سقياً لك) يجوز مكانه: سقاك الله.
[8]- الفراء: معاني القرآن،
ج1، ص3.
[9]- الزجّاج: معاني القرآن
وإعرابه، ص45.
[10]- أبو جعفر الطّبري: تفسير
الطّبريّ: ذيل تفسير الآية2 من سورة الفاتحة، ج1، ص138 و 139.
[11]- أبو جعفر النّحاس: إعراب
القرآن، ص93.
[12]- أبو جعفر، محمد بن الحسن
الطوسي(460هـ): البيان في تفسير القرآن،ج1 ، ص31
[13]- أي أنّ العلم لم يستقرّ
فيه استقراراً يلازم ذاته ولا ينفكّ عنه، وإنّما هو في طور استكمال علمه.
[14]- سيبويه(180هـ): الكتاب،
ج1، ص213 و 214.
[15]- أبو القاسم، محمود بن
عمر بن محمد، الزّمخشريّ،: تفسير الكشّاف، ج1، ص19، دار الكتب العلميّة، بيروت –
لبنان، ط1، 1995م.
[16]- شرح ابن عقيل: ج1، ص178
[17]- الزّمخشريّ: تفسير
الكشّاف، ج1، ص20.
[18]- ابن رجب: تفسير الفاتحة
[19]- ابن عجيبة: البحر
المديد، ذيل تفسير الآية الأولة من سورة الفاتحة
[20]- الشيخ الطوسي: ج1، ص31.
[21]- أبو الحسن، علي بن عيسى
بن أبي الفتح، الإربلي(692هـ): كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، ج2، ص329، دار
الأضواء، بيروت – لبنان، د . ت. وراجع أيضاً: محمّد باقر المجلسيّ: بحار الأنوار،
ج46، ص290، مؤسسة الوفاء، بيروت – لبنان، ط2، 1983م.
[22]- أبو القاسم، محمود بن
عمر بن محمد، الزّمخشريّ،: تفسير الكشّاف، ج1، ص18، دار الكتب العلميّة، بيروت –
لبنان، ط1، 1995م.
Comments
Post a Comment