النّحويّ الـمَـغْبُون

أبو جعفر الرُّؤاسيّ

(193ه)

 

الــدّكــتـــور أكــــرم محـمّـد نـبــــها

الجامعة اللّبنانيّة

2014

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

النّحْويّ المَغْبُون:أبو جعفر الرُّؤاسيّ(193هـ)

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على نبيّنا محمدٍ وآله الطاهرين، وبعد...

محمّد بن أبي سارة، الأنصاريّ، القرظيّ، يُكنى أبا جعفر، ويُعرف بالرؤاسيّ لِكِبرِ رأسه، أصله كوفيّ، سكن هو وأبوه النيل([1]) فسمّيَ بالنيليّ، نحويّ، لغويّ، مقرئ، شاعر، "وهو ابن عمّ معاذ بن مسلم بن أبي سارة المعروف بالهراء([2])، وآلُ أبي سارة أهلُ بيتِ فضلٍ وأدب"([3])، وكان الرّؤاسيّ من ثقات محدّثي الإماميّة، قال الشّيخ في رجاله: "محمد بن الحسن بن أبي سارة، أبو جعفر، أسندُ عنه"([4])، "روى هو وأبوه عن أبي جعفر الباقر (57هـ-114هـ) وأبي عبد الله الصّادق(80-148هـ) عليهما السلام"([5])، وهو "عالم أهل الكوفة، أخذ الحروفَ عن أبي عمرو بن العلاء(154هـ)، وحدّث عن ابن الأعرابي وعن نفطويه"([6])، وعن الخطيب البغدادي أنّه قال في حقّه: "كان عالماً بالعربيّة أديباً ثقةً"([7])، ذكره أبو عمرو الدّانيّ في (طبقات القرّاء)، وقال: "روى الحروف عن أبي عمرو، وله اختيار في القراءة تروى، سمع الحروف من خلاد بن خالد المنقريّ، وعليّ بن محمّد الكنديّ"([8])، "كان أستاذ الكسائيّ والفرّاء"([9])، زكّاه تلميذه الفرّاء بقوله: "كان رجلاً صالحاً ثقةً مأموناً"([10]).

إنّ أصحاب الطّبقات والتّراجم في القرن الرّابع للهجرة وما بعده يعترفون بأنّ الرؤاسيّ عالمُ أهل الكوفة والمقدّمُ فيهم، وأستاذيّتُهُ في اللّغة والنّحو ظاهرةٌ لا تحتاج إلى كبير عناء للتدليل عليها، قالوا: "وعلى الرّؤاسيّ فَقِهَ الكسائيّ والفراء علمَ العرب واللّسان، والكسائيّ والفراء يحكون في كتبهم كثيراً (قال أبو جعفر الرّؤاسيّ) و (قال محمد بن الحسن)"([11])، "والرّؤاسيّ أوّل مَنْ وضعَ من النحويين الكوفيين كتاباً في النحو، وكلّ ما في كتاب سيبويه (وقال الكوفيّ كذا) فإنّما يعني (الرّؤاسيّ)([12])، وللرّؤاسيّ كتابٌ معروفٌ عند أهل الكوفة، يقدّمونه يُقال له (الفيصل)، قال الرّؤاسيّ: بعثَ إليَّ الخليلُ بطلب كتابي فبعثتُ به إليه فقرأه ووضعَ كتابه"([13]).

ومن أسفٍ أنّ كُتُبَ الرّؤاسيّ قد ضاعَتْ بمجملها، ولم يصلْنا منها شيءٌ، إلا أنّ أستاذيّتَهُ لمدرسة الكوفة النحويّة وكتبَه مرويّة متواترة، "قال أبو إسحاق الطّبريّ: حدّثنا أبو القاسم يحيى بن محمد بن يحيى قراءةً عليه، قال: حدّثنا جعفر بن محمد اللّيث الكوفيّ، قال: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الخصاف، قال: حدّثنا خلاد بن عيسى الصيرفي، قال: حدّثنا أبو جعفر الرّؤاسيّ بكتبه"([14])، وله من الكتب في فهرست ابن النديم: "كتاب الفيصل رواه جماعة، وكتاب التصغير، وكتاب معاني القرآن يُروى إلى اليوم، كتاب الوقف والإبتداء الكبير، وكتاب الوقف والإبتداء الصغير"([15])، وأضاف إليها الزبيدي([16]) كتاب الجمع والإفراد ، وزاد النجاشي([17])كتاب الهمز، وكتاب إعراب القرآن، وأضاف الشبستري([18])كتاب القراءة.

توفي أبو جعفر، محمد بن الحسن بن أبي سارة الرّؤاسيّ أيام الرّشيد([19])، وقيل كان حيّاً قبل سنة 193هـ([20])، وقيل توفي سنة 187هـ([21])، وظنّ السّيد حسن الصّــــدر أن يكون "الرُّؤاسيّ مات بعد المائة بقليل، في أوائل الماية الثانية"([22])، وهذا خطأٌ، لأنّ الفرّاء الكوفي المتوفّى (207هـ)، وهو تلميذ الرّؤاسيّ، قد حدّثَ عنه، فكيف يكون قد مات الرؤاسيّ بعد المائة بقليل؟!

مطعن([23]) في علم الرُّؤاسيّ

صاحبُ هذه التصانيف الكثيرة المتنوّعة، وعالم أهل الكوفة في اللّغة والنحو، وأستاذ الكسائيّ والفراء، ينقّصُهُ أبو حاتم، ويطعنُ في عِلْمِهِ، قال: "كان بالكوفة نحويّ يُقال له أبو جعفر الرّؤاسيّ، وهو مطروحُ العلم ليس بشيء"([24])، وتبع الدكتور مهدي مخزومي أبا حاتم، فاستبعدَ أن يكون الرّؤاسيُّ رأس المدرسة الكوفية في اللّغة والنّحو، بل جعل الكسائيَّ رأسَ المدرسة وإمامَ أهل الكوفة "الذي نهجَ بالنّحو منهجاً جديداً، تولاّهُ الفرّاءُ من بعده بالرّعاية، فَهُمَا رئيسا المدرسة، وإليهما يُعزى تأسيسها وتنظيم منهجها، وبهما يبدأ تاريخها"([25])، بيدَ أنّ د. مخزومي أوردَ أقوال أصحاب التراجم الذين يقولون بأستاذيّة الرّؤاسيّ للكسائيّ والفراء، ومع ذلك يرى أنّ "البصرة هي مصدر دراسة الرّؤاسيّ"([26])، معتمداً في ذلك على ما ذكره الزبيديّ وأبو الطّيّب اللّغويّ من أنّ الرّؤاسيّ قرأ على "عيسى بن عمر(149هـ) أستاذ الخليل(175هـ) وسيبويه(180هـ)، وعلى أبي عمرو بن العلاء(145هـ)"([27]).

إنّ سماع الرّؤاسيّ في البصرة على أساطين القراءة واللّغة والنّحو قبل قيام المدرسة البصريّة والكوفيّة لا يعني أنّ الرّؤاسيّ صار بصريَّ المنهج، لأنّ الكلام على المنهج كان بعد أن درس الجميع، بصريون وكوفيون، على أيدي الأساتذة الأوائل، ثمّ اتّخذَ كلٌّ منهم لنفسه منهجاً عُرف به، فقالوا المدرسة البصرية أو المنهج البصريّ في دراسة اللّغة والنّحو، والمدرسة الكوفية أو المنهج الكوفي في دراسة اللّغة والنّحو، فالتمايز في المنهج كان بعد أن درسَ الجميع على أساطين القراءة واللّغة والنّحو أمثال أبي الأسود الدؤليّ(96هـ)، وعبد الله بن إسحاق(117هـ)، ويحيى بن يعمر(129هـ)، وعيسى بن عمر(149هـ)، وأبي عمرو بن العلاء(154هـ)، والمفضل بن محمّد الضّبيّ(168هـ)، والخليل بن أحمد الفراهيدي(175هـ)، وغيرهم كثير، فما هو منهج البصرة في دراسة النّحو، وما هو منهج الكوفة؟

منهج البصرة

إنصبّت عناية البصريين على الدّراسة اللّغوية والنّحوية، وما يستتبعُ ذلك من أقيسة وعِلَلٍ، ومباحث علم الكلام، فقد قاسوا في اللّغة والنّحو على الكثير الشّائع الفصيح، بينما قاسَ الكوفيون حتى على القليل والنادر، لذلك لم يكن بدعاً أن ترى السّيوطي يقول: "اتفقوا على أنّ البصريين أصحّ قياساً، لأنّهم لا يلتفتون إلى كلّ مسموعٍ، ولا يقيسون على الشّاذ، والكوفيون أوسع روايةً"([28])، ونَقَلَ كلامَ الأندلسيِّ في شرح المفصل([29]): "الكوفيون لو سمعوا بيتاً واحداً فيه جوازُ شيءٍ مخالف للأصول جعلوه أصلاً وبوّبوا عليه بخلاف البصريين".

إنّ نحاة البصرة تأثروا بالبيئة العقليّة البصريّة، فنهجوا نهجَ المعتزلة في الاعتداد بالعقل، وطرح كل ما يتعارض معه، فأهملوا الشّواذ في اللّغة، لهذا أُطلق على نحاة البصرة "أهل المنطق"، وتوسعوا من حيث القياس والتعليل، إذ طلبوا لكلّ قاعدة علّة، وعدّوا ما يخرج على القاعدة من الشّاذ، وقاسوا على القاعدة ما لم يسمع من كلام العرب، فصارت القاعدة هي المعيار المحكم السّديد، فالمدرسة البصرية تشدّدت أشدّ التشدّد في رواية الأشعار والأمثال والخطب ضمن الدائرة المشار إليها، واشترطوا في الشّواهد المعتمدة لوضع القواعد أن تكون جاريةً على ألسنة العرب، وكثيرة الاستعمال في كلامهم، بحيث تمثّل اللّغة الفصحى خير تمثيل، وحينما يواجهون بعض النّصوص التي تخالف قواعدهم، كانوا يرمونها بالشّذوذ أو يتأوّلونها حتى تنطبق عليها قواعدُهم .

وعلى هذه الأسس شادَتِ البصرةُ صرحَ النّحو ورفعت أركانَه.

منهج الكوفة

لم يعتدّ الكوفيون بالعقل والمنطق في الدّرس النحويّ، ولم يهتمّوا بالعلّة والتّعليل، وكانت البصرة قد سبقت الكوفة إلى الاتصال بالثقافات الأجنبيّة وبالفكر اليونانيّ، لذا، عُنِيَتْ بعلم الكلام، بينما انصبت عناية الكوفة على دراسة الفقه والقراءات ورواية الحديث النبويّ، وكان الكوفيون أكثرَ اتساعاً في رواية الشّعر عن العرب، بدواً وحضراً، واعتمدوا الأشعار والأقوال الشاذّة التي سمعوها من فصحاء العرب، وقاسوا على كلامهم ولو كان المرويّ مثالاً واحداً، حيث وصفه البصريون بالشّذوذ، واشتغلوا بالقراءات القرآنية، وبسطوا القياس وقبضوه.

إنّ الكوفيين قبلوا كل ما جاء عن العرب، واعتدوا به، وجعلوه أصلاً من أصولهم التي يرجعون إليها، ويقيسون عليها، ويستوثقون منها، حتى تلقفوا الشواهد النادرة، وقبلوا الرّوايات الشّاذة، سبق وأن ذكرنا ما نقله السّيوطيّ عن الأندلسيّ فى شرح المفصَّل: "الكوفيون لو سمعوا بيتاً واحداً فيه جوازُ شيءٍ مخالفٍ للأصول جعلُوهُ أصلاً وبوّبوا عليه، بخلاف البصريين"([30])، فالكوفيون كانوا أقلّ حريةً في استخدام الأقيسة العقليّة، وأشدّ احتراماً لما ورد عن العرب، حيث تاثّروا بالاتجاه الإخباريّ، فعنوا بالأخبار الجزئية في استخراج الأحكام النحويّة.

ردّ المطعن في علم الرّؤاسيّ

ذكرتُ في ما سبق، أنّ الكلام على المنهج كان بعد أن درس الجميع، بصريون وكوفيون، على أيدي الأساتذة الأوائل، ثمّ اتّخذَ كلٌّ منهم لنفسه منهجاً عُرف به، فاختطَّ سيبويه وتلاميذُه منهجاً خاصّاً في دراسة النحو سُمّيَ بالمنهج البصري أو المدرسة البصريّة ، وهو منهجٌ معياريٌّ يجعل القواعد عامّة مطّردة، واختطّ الرّؤاسيّ وتلاميذُه منهجاً آخرَ سُمّيَ بالمنهج الكوفيّ أو المدرسة الكوفيّة في دراسة النّحو، وهو منهجٌ وصفيٌّ يعتمد على الإتساع في رواية الشّعر والقياس على النادر، بيدَ أنّ سيبويه قد وصل منهجه كاملاً من خلال مؤلَّفِهِ (الكتاب) ، ومن أسفٍ أن لا تصل كُتب الرّؤاسيّ، وإنّما وصلنا جزءٌ من كتب تلميذيه النجيبين الكسائيّ والفراء، ولا أظنُّ أنّ رجلاً كان أستاذاً للكسائي والفراء، وصاحبَ تصانيف عديدة يُطعن في علمه ويقال عنه "مطروح العلم ليس بشيء"، والواضح في الأمر أنّ الطّعنَ في الرّؤاسيّ من أبي حاتم البصريّ سببُهُ التنافس السياسيّ([31]) والعلميّ والمكانيّ بين المدرستين البصريّة والكوفيّة.

إنّ الأخبارَ التي وصلتنا وهي تروي أعلميّة الرّؤاسيّ وأستاذيّته للكسائيّ والفراء كثيرةٌ مستفيضةٌ، جاءتنا من طرق البصريين، وتنقيص علم الرّؤاسيّ جاءنا أيضاً من طريق أبي حاتم البصريّ، فأخذ الدكتور مخزومي برواية التنقيص، وطرح روايات الأعلميّة والأستاذيّة ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾النجم/22، ولم أجد من أصحاب الطبقات والتراجم مَنْ طعنَ بالرّؤاسيّ سوى أبي حاتم، فمَن هو أبو حاتم هذا الذي نقّص الرؤاسيّ وطعن في علمه؟

هو سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشميّ السّجستانيّ، نزيل البصرة وعالمها، المتوفّى سنة 248 أو 250 للهجرة، وقد نقل الزبيدي تاريخاً آخر مرويّاً عن ابن دريد، قال: "مات أبو حاتم في آخر سنة خمس وستين ومائتين"([32])، وقرأ الزبيديّ في كتابٍ: "توفّي أبو حاتم سهل بن محمّد بالبصرة في رجب سنة خمسِ وخمسين ومائتين، ودُفن بصُرّة المصلّى"([33]).

قال أبو العباس المبرّد البصريّ، وتلميذ أبي حاتم: "وسمعتُهُ يقول: قرأتُ كتاب سيبويه على الأخفش مرّتين، وأضاف أبو العباس: ولم يكن بالحاذق في النّحو، ولو قدِمَ بغداد لم يقمْ له منهم أحدٌ، وكان إذا التقى هو والمازنيّ في دار عيسى بن جعفر الهاشميّ تشاغلَ أو بادرَ إلى الخروج خوفاً من أن يسألَهُ المازنيُّ في النّحو"([34])، وكتاب السّجستانيّ في القراءات مما يفخر به أهل البصرة، وقد ذكره "ابن حِبَّان في الثِّقات، وروى له النسائيّ في سُنَنِهِ، والبّزار في مسنده"([35]).

قال أبو العباس المبرّد تلميذ السّجستانيّ: "أتيتُ السّجستانيّ، وأنا حَدَثٌ، فرأيتُ منه بعضَ ما ينبغي أن تُهجرَ حلقتُهُ له"([36])، وهذا الذي رأهُ المبرّد من السّجستانيّ أسموهُ (دُعابة)، قال أبو الطّيّب اللّغوي: "وكان في أبي حاتمٍ دُعابة"([37])، ونقل السّيرافيّ في طبقاته روايةً عن ابن الغازي أنّه قال: "أخبرني رجلٌ من أهل البصرة، قال: قلنا لأبي زيد: على مَنْ نقرأُ بعدكَ؟ قال: على سهل بن محمّد _يعني أبا حاتم_ قال(أبو زيد): وكان يُزَنُّ بنحو ما زُنَّ به أبو عبيدة، ولكن كان بريئاً منه، إلا أنّه كان به دُعابة، فكان ذلك ممّا يُوجد به السّبيل إليه"([38])

هذا الذي اتُّهم به أبو حاتم أو هذه الدُّعابة أو هذه المزنّة صرّح بها القفطيّ، قال: "وكان أبو حاتم يُتّهمُ بحبّ الصّبيان، وكان بريئاً من ذلك، إنّما كان كثير الدُّعابة، فوجدَ ذلك السبيل إلى عِرضه"([39]).

هذه الدُّعابة أوردَ لها صاحبُ مراتبِ النّحويين حكايةً، قال: "أخبرنا عليٌّ بن سهل، قال: حضرَ معنا مجلسَ أبي حاتم غلامٌ من بني هاشم من آل جعفر بن سليمان، أحسن الناس وجهاً، فقال أبو حاتم: (من مجزوء الخفيف)

نصبُوا اللّحمَ للبُزا          ةِ على ذروَتَيْ عَدَنْ

ثمّ لامـوا البُــزاةَ أنْ          خلعوا فيهمُ الرّسَنْ

لـــو أرادوا عفافَــــنا          نقّبوا وجهَهُ الحسَنْ

     فقيلَ له في ذلك، فقال: (من الخفيف)

لا تظنّنَّ بي فجوراً، فما يــز          كـو فجورٌ بحاملِ القرآنِ

أنا عفُّ الضّميرِ غيرُ مُريبٍ         غيـر أنـّي مُتيّمٌ بــالحســانِ"([40])

في الأبيات اعترافٌ صريح من السّجستاني بما سمّوه دُعابة، فهو لا يستطيع أنْ يَكفّ بصرَهُ عن الغلمان الحسان، فلِمَ لا تنقّبونهم كي لا يأثمَ الرّجل؟! وإن لم تنقّبوهم فلا تلومّنّه إن أكلهم بعينيه! ولِمَ نظنّ به السوءَ والفحشاءَ إنْ كان مُتيّماً بهم؟!

على ضوء ما ذكرنا من سيرة السّجستانيّ العلميّة والسّلوكيّة لا تتركُ أدنى شكٍّ من أنّ تنقيصَهُ العلميّ للرؤاسيّ الكوفيّ تفوحُ منه رائحة العصبيّة البصريّة، وتفوح منه رائحة الخصومة السياسيّة والعلميّة، وربّما العقديّة، التي كانت قائمةً بينَ الـمـِصْرَيْنِ، هذه الخصومة دفعت أبو حاتم السجستانيّ البصريّ الذي قرأ كتاب سيبويه مرّتين، ولم يكن حاذقاً في النحو، وذو دُعابة مُتّهمٌ بحبّ الصّبيان، أن يُنقّصَ من علميّة أبي جعفرٍ الرّؤاسيّ عالمِ أهل الكوفة، الصالحِ، الثّقةِ، الرّاوي عن إمامين، أستاذِ الكسائيّ والفراء، صاحبِ التصانيف، وأوّلِ مَن وضعَ كتاباً في النحو الكوفي، وأن يقول عنه "مطروح العلم ليس بشيء".

إنّ ضياعَ كُتب الرّؤاسيّ ضيّعَ علينا علماً جمّاً، ولو وصلتنا لكنّا على بيّنةٍ من أمرنا، ونحن نتوقّفُ عن الكلام فيه إلى حينٍ، ولا نقولُ عنه مطروح العلم ليس بشيءٍ، بل نقول بما علمناه من كتب الطبقات والتراجم من أنّه رجلٌ ورعٌ، ثقةٌ، صالحٌ، عالمٌ، أستاذٌ، يروي عن إمامين، له من التصانيف ما ذكروا، ومَن كانت هذه سيرته وكتبه لا بدَّ أن يكونَ شيئاً مهمّاً يحمل علماً جمّاً، وسأحاولُ أن أجمعَ، ولأول مرّة، ما تشتّت من روايات وأقوال وآراء أبي جعفرٍ الرّؤاسيّ في كُتب التفاسير واللّغة والنّحو والقراءات محاولاً رسمَ معالم الصورة العلميّة لهذا العالم الثّقة المغبون.

 



[1]ـ قرية من أعمال الكوفة.

[2] ـ قال السيوطي في المزهر: "وكان للرؤاسيّ عمّ يقال له مُعاذ بن مسلم الهرّاء وهو نحوي مشهور، وهو أوّل من وضع التصريف" (السيوطي: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، ج2، ص400). والصحيح أنّ الرّؤاسيّ هو ابنُ عمّ الهراء، وليس ابن أخيه، لأنّ الرّؤاسيّ هو: محمّد بن الحسن بن أبي سارة، والهرّاء هو: معاذ بن مسلم بن أبي سارة.

[3] ـ النجاشي: رجال النجاشي، ص324، رقم الترجمة 883. وراجع أيضاً: الشيخ الطوسي: رجال الشيخ الطوسي، رقم الترجمة 4038. (ذكر أرباب التراجم أنّ معاذ بن مسلم بن أبي سارة أوّلُ مَنْ وضعَ فنّ التصريف، حُكيت عنه في القراءات حكايات كثيرة، وصنّف في النحو، ولم يصل إلينا من تصانيفه شيء، كان يتشيّع، وله شعر كشعر النحاة، وكان في عصره مشهور بالعمر الطويل، فكان له أولاد وأولاد أولاد فمات الكلّ وهو باقٍ، قال عن نفسه لما سُئل: ولدت في أيام يزيد بن عبد الملك(تولى الخلافة سنة101هـ) أو في أيام عبد الملك، توفي معاذ سنة 190هـ، وقيل في السنة التي نكب فيها البرامكة وهي سنة 178هـ) (راجع: ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج5،ص218، رقم الترجمة725).

[4]ـ الشيخ الطوسي: رجال الشيخ الطوسي، رقم الترجمة 4038.

[5]ـ النجاشي: رجال النجاشي، ص324، رقم الترجمة 883.

[6] ـ أبو الطيب اللغوي(351هـ): مراتب النحويين، ص 39

[7] ـ ـ الشيخ عباس القمي: الكنى والألقاب، ص196.

[8] ـ السيوطي: بغية الوعاة، ص34، عُني بتصحيحه محمد أمين الخانجي، مطبعة السعادة، مصر، ط1، 1326هـ.

[9] ـ المرزُبانيّ(297-384هـ) إختصار أبي المحاسن اليغموري،: نور القبس المختصر من المقتبس،ص279، رقم الترجمة78.

[10] ـ الفراء: معاني القرآن، ج3،ص298 و ج1،ص9. وراجع أيضاً: المرزُبانيّ(إختصار أبي المحاسن اليغموري): نور القبس المختصر من المقتبس،ص279، رقم الترجمة78. وأيضاً: ابن النديم: الفهرست، ص71، الفن الثاني من المقالة الثانية.

[11]ـ النجاشي: رجال النجاشي،ص324، رقم الترجمة 883. ابن الجزري الدمشقي: غاية النهاية في طبقات القرّاء، ج2،ص104و105، رقم الترجمة 2924، نشرَ الكتاب براجسترسر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1،2006 . وراجع أيضاً: ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج6، ص574.

[12] ـ راجعتُ كتاب (الكتاب) ولم أجد فيه موضعاً واحداً يقول فيه سيبويه (وقال الكوفيّ كذا)، والظاهر أنّ الروايةَ من خطأ النسّاخ أو من أوهام  المُترجمين، وقد تكون الرواية الصحيحة هي تلك التي نقلها ياقوت الحموي عن ابن درستويه، قال: وزعمَ جماعةٌ من البصريين أنّ الكوفيّ الذي يذكره الأخفش في آخر كتاب المسائل ويردّ عليه هو الرؤاسي.   (ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج6، ص573). وراجع أيضاً: السيوطي: بغية الوعاة، ص33.

[13]ـ ابن النديم: الفهرست، ص71، الفن الثاني من المقالة الثانية ـ  وراجع أيضاً:كمال الدين بن محمد الأنباري: نزهة الألباء في طبقات الأدباء، ص56 ـ وأيضاً:  المرزُبانيّ(إختصار أبي المحاسن اليغموري): نور القبس المختصر من المقتبس،ص279، رقم الترجمة78.. وأيضاً: وياقوت الحموي: معجم الأدباء،ج6،ص573 و 672.

[14]ـ النجاشي: رجال النجاشي، ص324، رقم الترجمة 883.

[15]ـ ابن النديم: الفهرست، ص71 ـ ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج6، ص576.

[16]ـ الزبيدي(379هـ): طبقات النحويين واللغويين، ص125، رقم الترجمة 56، دار المعارف، مصر، ط2، من سلسلة "ذخائر الأدب"، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم.

[17]ـ النجاشي: رجال النجاشي،ص324، رقم الترجمة 883.

[18]ـ عبد الحسين الشبستري: أصحاب الأمام الصادق، ج5،ص52، مؤسسة النشر الإسلامي، إيران، ط1، 1418هـ.

[19]ـ ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج6، ص573. وراجع أيضاً: المرزُبانيّ(إختصار أبي المحاسن اليغموري): نور القبس المختصر من المقتبس،ص279، رقم الترجمة78. (وهارون الرشيد(149هـ - 193هـ) خامس خلفاء الدولة العباسية في العراق).

[20]ـ الكحالي: معجم المؤلفين، عند ترجمته لمحمد بن الحسن بن ابي سارة ـ  وأيضاً: عبد الحسين الشبستري: أصحاب الأمام الصادق، ج5،ص53.

[21]ـ الزركلي: الأعلام، عند ترجمة : الرؤاسي، ج6، ص271.

[22] ـ حسن الصّدر: تأسيس الشّيعة لعلوم الإسلام، ص68، منشورات الأعلمي، طهران، د . ت.

[23] ـ المطعن هو العيب، وجمعه مطاعن، ومنه: ما فيه مطعنٌ، وقد تكون صيغة مبالغة على (مَفْعَل) من الفعل (طَعَنَ)، يقال: طعنَ على وطعن في.

[24]ـ عبد الواحد بن علي (أبو الطيب اللغوي): مراتب النحويين، ص39.

[25]ـ مهدي مخزومي: مدرسة الكوفة (ومنهجها في دراسة اللغة والنحو)، ص79.

[26]ـ م . ن : ص77.

[27]ـ الزبيدي(379هـ): طبقات النحويين واللغويين، ص125، رقم الترجمة 56 ـ  أبو الطيب اللغوي(351هـ): مراتب النحويين، ص 39ـ ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج6، ص576.

[28]ـ السيوطي: الاقتراح في علم أصول النحو، ص100, مطبعة حيدر آباد، ط1، 1310هـ.

[29] ـ م . ن: ص100.

[30] ـ السيوطي: الاقتراح في علم أصول النحو، ص100.

[31] ـ وَصَفَ الأصمعيُّ الأمصار في زمنه، فقال: "البصرةُ كلّها عثمانيّة، والكوفةُّ كلُّها علويّة، والشّام كلّها أمويّة.. وإنّما صارت البصرةُ عثمانيّةً من يوم الجَمَل، إذ قامُوا مع عائشة وطلحة والزُّبير، فقتلهم عليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه".  (ابن عبد ربه: العقد الفريد ج6، ص248، باب (تفاضل البلدان)).وقال الذهبيُّ: "ويندرُ أن تجدَ كوفيّاً إلا وهو يتشيّع"  (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج5، ص374)

[32] ـ أبو بكر الزبيدي(379هـ): طبقات النّحويين واللّغويين، ص94، رقم الترجمة31، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، ط2، 1984م.

[33] ـ م . ن : ص96.

[34]ـ السيرافي(368هـ): أخبار النحويين البصريين(ومراتبهم وأخذ بعضهم عن بعض)، ص102 و 103 ـ  ابن النديم: الفهرست، ج1، ص64، أخبار أبي حاتم السجستاني  ـ  القفطي: إنباه الرواة على أنباه النحاة،ج2، ص59، رقم الترجمة282.

[35]ـ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج12، ص268، رقم الترجمة 102.

[36]ـ السيرافي(368هـ): أخبار النحويين البصريين، ص103 ـ إنباه الرواة على أنباه النحاة،ج2، ص59، رقم الترجمة282.

[37]ـ أبو الطيب اللغوي(351هـ): مراتب النحويين، ص 95.

[38] ـ الزبيدي(379هـ): طبقات النحويين واللغويين، ص95. (يقال: فلانٌ يُزنُّ بكذا وكذا: أي مُتّهمٌ به. ولا يكون الإزنان في الخير. ويقال: زنّه بكذا : إذا اتّهمه وظنّه فيه. ويقال: إنّا لَنَزُنُّهُ بالبخل: أي نتّهمه. وفي الحديث: فتى من قريش يُزَنُّ بشرب الخمر: أي يُتّهم)  ابن منظور: لسان العرب، ج7،ص67.

[39]ـ القفطي: إنباه الرواة على أنباه النحاة،ج2، ص60، رقم الترجمة282.

[40]ـ أبو الطيب اللغوي(351هـ): مراتب النحويين، ص 95.

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

حكايا على الطريق - صنميّة سياسيّة

سائقة عصامية