سائقة عصامية
حكايا على الطّريق(2):
سائقة عصاميّة
د. أكرم محمد نبها
وقفتُ أنتظرُ
سيارةَ الأُجرةِ(السّرفيس) كي تقلَّني إلى عملي، لاحتْ من بعيدٍ سيارةٌ (نمرتُها)
حمراء، مـمّا يعني أنّها سيارةُ أُجرة، توقّفتْ أمامي، وقال السّائقُ:
-
إلى أين؟
بـَحْلَقْتُ
في السّائق، وإذا بي أرى فتاةً وراء الـمِقْوَدِ، تسمّرتُ في مكاني مذهولاً!
كرّرتِ
السّؤال: إلى أين أنتَ ذاهبٌ يا أستاذ؟
اِنتفضْتُ من
ذهولي كعصفورٍ بلّلَهُ المطر، وقلتُ مُتأتئاً: أأالرّحاب.
قالت: اِركبْ.
أينَ أركبُ؟؟
دارَ صراعٌ
خفيٌّ في داخلي بين حيائي الشّرقيّ ولياقتي الأدبيّة، فالمقعدُ الأماميُّ إلى جانب
السّائقةِ فارغٌ، والمقاعدُ الخلفيّة هي الأخرى فارغةٌ، أين أجلسْ؟
ثوانٍ،
وتغلّبَ حيائي على لياقتي، فتحتُ البابَ وجلستُ في المقعد الخلفيّ، ثمّ انطلقت بنا
السّيارة.
السّائقةُ
فتاةٌ تجاوزت الثلاثين ببضع سنين، تداعبُ بين أصابع يدها اليسرى سيكارةً، تنفضُ
رمادَها إلى الخارج من شباك مفتوح، ويدُها اليُمنى تُحرّكُ المِقْوَد.
السّيارة بين
يدي السّائقة كدُمية تلهو بها، تزمّرُ لهذا، فيرفعُ حاجبيه مُستهجناً مُتمنّعاً،
تمرّ بين سيارتين من مكانٍ ضيّقٍ لتقف عند الاشارة الحمراء بجوارِ زَمِيْلِ كَار،
فيخاطبُها ساخراً: (اِيشْ يا خَال عم بتسابقنا عالرُّكّاب؟!؟ وينو جَوْزِكْ، عامل
دادا بالبيت)؟؟ فأسرّتْها السّائقةُ في نفسِها ولم تُعقّبْ.
أثناء الطّريق
كنتُ أخفي نصفَ وجهي بيدي اليُسرى تارةً، وباليُمنى تارةً أخرى خَشيَةَ أن يراني
أحدُ المعارف أو إحداهنَّ.
فجأةً لاح من
بعيد شبحُ راكبٍ في العشرين من عمره، توقّفت السائقُ قُبالَهُ وقالت: إلى أين؟؟
مدَّ رأسه من
شُباك السّيارة كالزّرافة وقال مُبتسماً: تاكسي الغرام يا مدام ؟!؟ أجابت بكلّ
رباطةِ جأشٍ: لا، يا سلام عالكلام!!
ضحكتُ في سرّي
لأنّ السّجعةَ أعجبتني، ثمّ لملمتُ بعضَ شجاعتي، وقلتُ:
- هل أنتِ مُتزوّجة يا مدام؟؟
-
نعم و لا .
ففهمتُ أنّها
أرملةٌ، أو مطلّقةٌ.
- وهل لديكِ أولاد؟؟
- نعم ، ثلاثةٌ، كبيرُهم في السّابعة وصغيرُهم
في الثانية، تُوفّيَ زوجي منذُ سبعةِ أشهرٍ أمام باب المستشفى بمرضٍ خبيث.
- أليس لكِ مُعِيل؟؟
- لا، لقمةُ العيشِ مُغمّسةٌ بالشّقاء والتّعب
ومرّ الحياة يا أستاذ.
ثم أردفتْ
قائلةً: بعد مرور شهرين من وفاة مُعيلنا نفدَ ما تركَهُ لنا من فُتاتِ العيش،
وأصبحتُ أمامَ خَيَارين أحلاهما مُرّ: إمّا أن أتسوّلَ النّاسَ مع ما يتبع ذلك من
ذُلّ السّؤال وامتهان الكرامة، وإمّا أن أُكمل مسيرةَ زوجي في قيادة السّيارة،
فاخترتُ الثانية.
وصلتُ إلى
مكان عملي ، نقدْتُها ألفين من اللّيرات، ونزلتُ، وانطلقتِ السّائقةُ، فشيّعتُها
إلى أن غابت عن ناظريّ، وقلتُ في نفسي:
حقّاً، إنّ
نساءَنا أخواتُ الرّجالِ في ساحات العمل والجهاد.
بيروت، 14،أيار،2017
Comments
Post a Comment